مقدمة
الحمد لله القائل (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) والقائل: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به)، والصلاة والسلام على إمام القراء ومعلم العلماء سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمين، وبعد:
قد خص الله تعالى هذه الأمة في كتابهم هذا المنزل على نبيهم صلى الله عليه وسلم بما لم يكن لأمة من الأمم في كتبها المنزلة فإنه تعالى تكفل بحفظه دون سائر الكتب ولم يكل حفظه إلينا قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وذلك إعظام لأعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى تحدى بسورة منه أفصح العرب لساناً وأعظمهم عناداً وعتواً وإنكاراً فلم يقدروا على أن يأتوا بآية مثله ثم لم يزل يتلى آناء الليل والنهار من نيف وثمانمائة سنة مع كثرة الملحدين وأعداء الدين ولم يستطع أحد منهم معارضة شيء منه، وأي دلالة أعظم على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم من هذا؟ ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة([1])
وقد جعل الله عز و جل قراءته و تلاوته عبادة مفضلة و أمرا مرغوبا فيه . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (( أفضل العبادة قراءة القرآن))([2])
بناء على ذلك ، يحتاج إليه أن يعلم القراءات و علومها و يدرسها لتعلقها بالقرآن و كيفية تلاوته تلاوة صحيحة . و القراءات متعددة و مختلفة . ما السبب ذلك ؟ هذه الرسالة تحاول أن تشرحه .
فننقسم هذه الرسالة إلى :
1. تعريف القراءة و علم القراءة
2. نشأة علم القراءات
3. أسباب اختلاف القراءات
4. فوائد اختلاف القراءات
5. الشبهات حول القراءات
أ- تعريف القراءات
Ø القراءات لغة:
القراءات جمع قراءة .والقراءة مصدر سماعي لقرأ.تقول: قرأ يقرأ قراءة، وقرآنا وقرءاً.
والقرء في اللغة الجمع والضم. وسميت القراءة قراءة؛ لأن القارئ يجمع الحرف مع الحرف فتكون كلمة، والكلمة مع الكلمة فتكون جملة، والجملة مع الجملة. فهو يقرأ يعني يجمع ذلك كله.
Ø القراءات اصطلاحا:
القراءة مذهب من مذاهب النطق بالقرآن الكريم؛ يذهب إليه إمام من الأئمة مذهبا يخالف غيره مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها.
Ø تعريف علم القراءات
هو علم يعنى بكيقية أداء كلمات القرآن الكريم واختلافها معزُواً (أي منسوباً) إلى ناقله([3]).
ملاحظة:
يخلط كثير من الباحثين بين تعريف القراءات وبين تعريف علم القراءات، والفرق بين القراءات وعلم القراءات كالفرق بين القرآن وعلوم القرآن
ب- نشأة علم القراءات
وقد نشأ علم القراءات أول ما نشأ منذ اللحظات الأولى لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلام ربه بواسطة جبريل الأمين عليه السلام. فكان عليه الصلاة والسلام يقرؤه مرتّلاً مجوَّداً على أصحابه مصداق قول الله سبحانه { ورتل القرآن ترتيلا } (المزمل/4) وقوله عز وجل { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}(الإسراء/106). بل يتكون هذا العلم المعرفة.
وقد أتقن الصحابة رضوان الله عليهم تلاوته من واقع عربيتهم الفصيحة السليمة من كل شائبة، ومن واقع تلقيهم للقرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم قاموا هم بتعليمه لمن وراءهم على النحو الذي سمعوه وتلقوه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي لهجات القبائل العربية في النطق واللفظ، وذلك من فضل الله على الأمة ومن توسعته لها، حيث أنزل الله سبحانه القرآن الكريم على سبعة أحرف.
قد وقع خلاف عند العلماء في بداية نزول القراءات وأوجه الاختلاف في الكلمات.هل بدأ نزولها في مكة، أو في المدينة على قولين:
Ø القول الأول :
إن بداية نزولها كان بمكة وذلك للأدلة التالية :
1. الأحاديث الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف ومنها : (أقرأني جبريل على حرف واحد، فراجعته فلم أزل استزيده، ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ). فوجه الدلالة واضح في أن القراءات تزامن نزولها مع نزول القرآن الكريم.
2. إن القرآن نزل بحرف، وبأكثر من حرف، والناظر في سور القرآن الكريم يجد أن معظم سور القرآن نزلت بمكة، حيث أن عدد السور المكية ثلاث وثمانون سورة.
3. أنه لم يثبت بسند صحيح أن هذه السورة نزلت مرة أخرى بالمدينة، فعدم نزولها مرة أخرى دليل على أنها نزلت بمكة مشتملة على الأحرف السبعة.
4. أن الغاية التي من أجلها نزلت الأحرف السبعة هي التخفيف عن الأمة على اختلاف لغاتها ولهجاتها، وهذه الحالة موجودة في مكة، ثم إن الأمة أحوج ما تكون للتيسير في مكة قبل المدينة.
Ø القول الثاني :
إن بداية نزول القراءات القرآنية كان بالمدينة، وذلك للأدلة التالية:
1. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل استزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار. وأضاءة بني غفار مستنقع بالمدينة.
2. أن القراءات نزلت للتخفيف والتيسير بسبب اختلاف اللهجات، ولم تكن الحاجة إليها إلا بعد الهجرة.
Ø القول الثالث:
هناك من جمع بين القولين بأن بداية نزول القراءات كان بمكة مع بداية نزول القرآن، ولكن الحاجة لم تدع لاستخدامها لوحدة اللهجة في مكة وما جاورها، واختلاف اللهجات إنما حدث بعد الهجرة في المدينة حين دخلت في الإسلام قبائل متعددة بلهجات مختلفة.
ت- نبذة عن تاريخ علم القراءات
أول من جمع هذا العلم في كتاب هو الإمام العظيم أبو عبيد القاسم بن سلام في القرن الثالث الهجري فقد ألف " كتاب القراءات" وقيل أن أول من ألف وجمع القراءات هو حفص بن عمر الدوري، واشتهر في القرن الرابع الهجري الحافظ أبو بكر بن مجاهد البغدادي وهو أول من ألف في القراءات السبعة المشهورة، وتوفي سنة 324 من الهجرة، وفي القرن الخامس اشتهر الحافظ الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني مؤلف كتاب ( التيسير ) في القراءات السبع والذي صار عمدة القراء وله تصانيف كثيرة في هذا الفن وغيره.
واشتهر في هذا العلم أيضاً الإمام مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني وقد ألف كتبًا لا تعد ولا تحصى في القراءات وعلوم القرآن. وفي القرن السادس الهجري اشتهر شيخ هذا الفن الذي تسابق العلماء إلى لاميته وانكبوا عليها انكباب الفراش على النور تلك هي الشاطبية التي أسماها " حرز الأماني ووجه التهاني " نظم فيها القراءات السبعة المتواترة في ألف ومائة وثلاثة وسبعين بيتًا )1173(
ذاك هو أبو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الأندلسي، توفي سنة 590 من الهجرة، وبعده ما زالت العلماء في هذا الفن تترى في كل عصر وقرن حاملين لواء القرآن الكريم آخذين بزمام علومه قراءة وتطبيقاً، صارفين الأعمار لخدمته تصنيفاً وتحقيقاً، حتى قيض الله عز وجل له إمام المحققين وشيخ المقرئين محمد بن الجزري الشافعي فتتلمذ عليه خلق لا يحصون وألف كتباً كثيرة أشهرها ( النشر في القراءات العشر ) ونظم في التجويد ( المقدمة فيما على قارئه أن يعلمه )
ذاك هو أبو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الأندلسي، توفي سنة 590 من الهجرة، وبعده ما زالت العلماء في هذا الفن تترى في كل عصر وقرن حاملين لواء القرآن الكريم آخذين بزمام علومه قراءة وتطبيقاً، صارفين الأعمار لخدمته تصنيفاً وتحقيقاً، حتى قيض الله عز وجل له إمام المحققين وشيخ المقرئين محمد بن الجزري الشافعي فتتلمذ عليه خلق لا يحصون وألف كتباً كثيرة أشهرها ( النشر في القراءات العشر ) ونظم في التجويد ( المقدمة فيما على قارئه أن يعلمه )
ث- من أين جاء اختلاف القراءات: وما هي الدوافع لاختيار القراءات:
كما كان الدافع لجمع القرآن في زمن أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم هو صيانة كتاب الله تعالى، فإن ذلك أيضا كان وراء تحديد القراءات التي يقرأ بها.
يقول ابن الجزري: (ثم كثر الاختلاف أيضا فيما يحتمله الرسم، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد من المسلمين تلاوته، فوضعوها من عند أنفسهم وفاقاً لبدعهم، كم قال من المعتزلة ]وكلم الله موسى تكليما[ بنصب لفظ الجلالة، ومنالرافضة ]وما كنت متخذ المضلين عضدا[ بفتح اللام يعنون أبا بكرو عمررضي الله عنهما.
فلما وقع ذلك : رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات، تجردوا للقيام بالقرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمةً مشهورين بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين، وكمال العلم، أفنوا عمرهم في الإقراء والقراءة واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا وثقتهم فيما قرأوا ورووا وعلمهم بما يقرئون ولم تخرج قراءتهم عن خط المصحف
وبعد أن عدد الأئمة قال:
ثم إن القراء بعد ذلك تفرقوا في البلاد، وخلفهم أمم بعد أمم، وكثر بينهم الخلاف، وقل الضبط، واتسع الخرق، فقام الأئمة الثقات النقاد وحرروا وضبطوا وجمعوا وألفوا على حسب ما وصل إليهم أو صح لديهم..
فالذي وصل إلينا اليوم متواتراً أو صحيحاً مقطوعاً به: قراءات الأئمة العشرة ورواتهم المشهورين) ([4])
ج- أسباب اختلاف القراءات عند جولد زيهر
زعم جولد زيهر أن سبب اختلاف القراءات ومنشأ تنوعها وتعددها إنما هو خاصية الخط العربي الذي كتبت به المصاحف العثمانية تلك الخاصية هي خلوه من اعجام الحروف ونقطها الذي يدل على ذاتها ، و خلوه من شكل الكلمات الذي يدل على إعرابها.
فاختلاف القراءات -في زعمه- إنما كان عن تشه و هوى، و رأي و اختيار من القراء، لا عن توقيف
خلاصة رأيه أن اختلاف القراءات يرجع إلى سببين :
Ø تجرد المصاحف من نقط الحروف
Ø تجردها من شكل الحروف وفقد الحركات اللغوية و النحوية منها
هذا رأي خاطئ ونظر خاسئ و زعم باطل وفرية منكرة اجترأ عليها جولد زيهر ليقذف بها أقدس ما يقدسه المسلمون وهو كتاب الله.
هناك من شواهد التاريخ و أدلة النقل و براهين العقل ما ينقض هذا الرأي :
Ø الدليل الأول :
أن التاريخ يدل على أن القرأن الكريم كان محفوظا فى صدور أصحاب رسول الله, فلذلك أن القراءات مردها الرواية و مرجعها السماع, و ليست خاصية الخط العربى.
Ø الدليل الثانى :
أن الخليفة عثمان أرسل مع كل مصحف عالما من علماء القراءة لتقييد ما يحتمله الرسم من القراءات بالمنقول منها تواترا . هذا دليل واضح على أن القراءة إنما تعتمد على التلقي والنقل والرواية لا على الخط و الرسم و الكتابة.
Ø الدليل الثالث :
أن تنوع القراءات و اختلافها نتيجة حتمية لخلو المضاحف من الشكل و الإعجام لكانت كل قراءة يحتملها رسم المصحف صحيحة معتبرة من القرأن.
Ø الدليل الرابع :
أن مصدر القراءات النقل لا الرسم، لا يستقيم هذا فى حكمة الحكيم لأن فيه تعريضا لنصوص القرأن للتناقض و التعارض، و التخاذل و التهافت، و التغيير و التحريف، و الخطأ و التصحيف.
Ø الدليل الخامس :
أن مبعث القراءات الوحي و التلقي و المشافهة من فيه صلى الله عليه و سلم لا فى خلو المصاحف من النقط و الحركات.
Ø الدليل السادس :
أن القرأن لا يستطيع أن يبدل كلمة بكلمة أو حرفا بأخر، و أشار إلى أن هذا التبديل معصية يترتب عليها العقاب الأخروي الشديد.
Ø الدليل السابع :
أن قراءته بالرأي والإختيار تفضي إلى تعريض نصوصه للتغيير والتصحيف وذلك ينافى الوعد بحفظه.
Ø الدليل الثامن :
إنما كان مصدرالصحابة في حفظ القرآن السماع من فيه صلى الله عليه و سلم، و التلقي منه والأخذ عنه و مشافهة مع حرصهم على حفظ و ضبط كل ما يسمعونه فى صدورهم، و انتقاشه على صفحات قلوبهم. هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب لا يمكنهم أن يقرؤوا إلا فى الكتب من غير حفظ و لا استظهار.
Ø الدليل التاسع :
إن من عرف حال الصحابة، و محبتهم لدينهم، و تقديسهم لكتاب ربهم الذي يعتقدون فيه أنه مجمع شريعتهم، و مناط سعادتهم، و معجزة نبيهم.
Ø الدليل العاشر :
إن من القراء العشرة من بلغ الذروة فى العربية، و له مذهب خاص فى النحو اشتهر به.
Ø الدليل الحادي عشر:
أن تواتر قراءات الأئمة العشرة، و ثبوتها عن رسول الله بطريق القطع و اليقين.
ح- فوائد اختلاف القراءات([5])
1- جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم والذي انتظم كثيرا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة فكان القرشيون يستملحون ما شاؤوا ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب وحدب ثم يصقلونه ويهذبونه ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة التي أذعن جميع العرب لها بالزعامة وعقدوا لها راية الإمامة وعلى هذه السياسة الرشيدة نزل القرآن على سبعة أحرف يصطفي ما شاء من لغات القبائل العربية على نمط سياسة القرشيين بل أوفق ومن هنا صح أن يقال إنه نزل بلغة قريش لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى وكانت هذه حكمة إلهية سامية فإن وحدة اللسان العام من أهم العوامل في وحدة الأمة خصوصا أول عهد بالتوثب والنهوض.
2-بيان حكم من الأحكام: كقوله سبحانه: ] وإن كان رجل يورث كلالة أو أمرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس [ [النساء 12] قرأ سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت من أم) بزيادة لفظ (من أم) فتبين بها أن المراد بالإخوة في هذا الحكم الإخوة للأم دون الأشقاء ومن كانوا لأب وهذا أمر مجمع عليه . ومثل ذلك قوله سبحانه في كفارة اليمين:]فكفرته إطعام عشرة مسكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة [[المائدة 89 ] وجاء في قراءة (أو تحرير رقبة مؤمنة) بزيادة لفظ مؤمنة فتبين بها اشتراط الإيمان في الرقيق الذي يعتق كفارة يمين وهذا يؤيد مذهب الشافعي ومن نحا نحوه في وجوب توافر ذلك الشرط.
- ومنها الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين، كقوله تعالى: ] فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن[ [البقرة 222] قرىء بالتخفيف والتشديد في حرف الطاء من كلمة يطهرن ولا ريب أن صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في طهر النساء من الحيض لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أما قراءة التخفيف فلا تفيد هذه المبالغة ومجموع القراءتين يحكم بأمرين أحدهما أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر وذلك بانقطاع الحيض، وثانيهما أنها لا يقربها زوجها أيضا إلا إن بالغت في الطهر وذلك بالاغتسال فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء وهو مذهب الشافعي ومن وافقه أيضا.
- ومنها الدلالة على حكمين شرعيين ولكن في حالين مختلفين: كقوله تعالى في بيان الوضوء ]فأغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأمسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين[ [المائدة 6] قرىء بنصب لفظ (أرجلَِكم) وبجرها، فالنصب يفيد طلب غسلها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ (وجوهَكم) المنصوب وهو مغسول والجر يفيد طلب مسحها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ (رؤوسِكم) المجرور وهو ممسوح وقد بين الرسول أن المسح يكون للابس الخف وأن الغسل يجب على من لم يلبس الخف.
- ومنها دفع توهم ما ليس مرادا كقوله تعالى: ]يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله[[الجمعة 9] وقرىء (فامضوا إلى ذكر الله) فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضي ليس من مدلوله السرعة.
- ومنها بيان لفظ مبهم على البعض، نحو قوله تعالى: ]وتكون الجبال كالعهن المنفوش[ [القارعة 5] وقرىء (كالصوف المنفوش) فبينت القراءة الثانية أن العهن هو الصوف.
- ومنها تجلية عقيدة ضل فيها بعض الناس نحو قوله تعالى في وصف الجنة وأهلها ]وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا[ [الإنسان 20] جاءت القراءة بضم الميم وسكون اللام في لفظ (وملكا كبيرا) وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة لأنه سبحانه هو الملك وحده في تلك الدار ]لمن الملك اليوم لله الوحد القهار[ [غافر16].[6]
Ø الشبهة الأولى: عدم تواتر القراءات:
زعم بعض من لا علم له في القراءات ولم يمهر فيها بأنها غير متواترة، لأنها منقولة بأسانيد آحاد، ولا يستطيع أحد أن يثبت تواترها، والبعض أثبت التواتر في القراءات السبع ونفاه عن القراءات الثلاث المتممة للعشر.
الجواب:
التواتر: هو أن ينقل الكلام جماعة تحيل العادة اجتماعهم على الكذب من أول السند إلى منتهاه.
وهذا المعنى متحقق في القراءات العشر إذ رواها عدد كبير من الصحابة، ورواها عنهم التابعون ومن تبعهم. ولم تخل الأمة في عصر من العصور ولا في مصر من الأمصار عن جم غفير ينقل القراءات ويرويها بالإسناد المتصل.
وأما الطعن في تواتر القراءات الثلاث: فمردود أيضاً لأنها لا تخرج عن القراءات السبع إلا في حروف يسيرة، وقد ذكر ابن الجزري رحمه الله أسماء عدد من أئمة القراءة قرؤوا بالقراءات الثلاث من زمنه إلى أن وصل إلى الأئمة الثلاثة، وعددهم في كل طبقة لا يقل عن الحد الأعلى للتواتر. وأئمة القراءات الثلاث تلقوا القراءة عن أئمة القراءات السبع، فإذا تواترت السبع لزم من تواترها تواتر الثلاث.
ونسبة القراءات إلى الأئمة لا تعني أنه لم يرويها غيرهم، بل قد رواها كثيرون غيرهم، ولكنهم كانوا أبرز القراء وأكثرهم إتقاناً وملازمة للقراءة التي رويت عنهم مع الثقة والعدالة وحسن السيرة، ولذلك نسبت إليهم.
وبهذا يتبين لنا أن هذه الشبهة في غاية السقوط، والله تعالى أعلم.
Ø الشبهة الثانية: مصدر اختلاف القراءات هو رسم المصحف:
وذلك أن خلو رسم المصحف من النقط والشكل بالإضافة إلى ما في رسم المصحف من حذف وزيادة وإبدال، هو الذي جعل القراء يختلفون فيما بينهم، فمنهم من يقرأ (فتبينوا) ومنهم من يقرأ (فتثبتوا) وغير ذلك..
الجواب:
هذه الشبهة الباطلة يكذبها الواقع، وذلك أن هناك كلمات كثيرة جداً لو كان المرجع في اختلاف القراءات إلى الرسم لاختلفوا فيها ولكنك تجدهم متفقين على قراءتها بوجه واحد رغم احتمال رسمها لأكثر من قراءة.
ولو تتبعنا أسانيد القراءات كلها لوجدناها تصل إلى رسول الله r، فكل قارئ يقرأ وفق ما تلقاه من شيخه حتى يصل الإسناد إلى رسول الله r، فمرجع الاختلاف إذاً ليس الاعتماد على الرسم وإنما على التلقي والمشافهة. ولما كتب عثمان المصاحف أرسل مع كل مصحف قارئاً ليقرئ الناس، ولو جاز استخراج القراءات المختلفة من الرسم لما احتاج أن يرسل مع كل مصحف قارئاً معلماً.
و لو كان خلو المصاحف من الشكل والنقاط هو السبب في تنوع القراءات واختلافها لكانت كل قراءة يحتملها رسم المصحف صحيحة معتبرة قرآنًا، وواقع الأمر ليس كذلك، إذ إن القراءات القرآنية من جهة قبولها تنقسم إلى أقسام؛ فهناك القراءات مقبولة، وهناك القراءات المردودة، وهذا التقسيم الذي اعتمده أرباب هذا العلم يدلل على أن أي قراءة لا يُعتد بها، ولا تعتبر قرآنًا إلا إذا توفرت فيها شروط القبول الثلاثة.
غاية ما في الأمر أن خلو المصاحف من النقط والشكل سبباً معيناً للرسم لاستيعاب القراءات المختلفة في الكلمة والواحدة وليس موجباً لاختلاف القراءات أو مصدراً من مصادرها. والله تعالى أعلم.
Ø الشبهة الثالثة: جواز القراءة بالمعنى:
يزعم أصحاب هذه الشبهة أنه يجوز استبدال لفظ مكان آخر في القرآن الكريم إذا كان يؤدي المعنى نفسه، مستدلين بما روي عن ابن مسعود t أنه كان يقرئ رجلاً ] إن شجرة الزقوم طعام الأثيم [ وكان الرجل يقول طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر، قال نعم، قال فقل.
الجواب:
لو كانت القراءة بالمعنى حاصلة وجائزة لكان بين أيدينا اليوم مئات المصاحف.
ولذهب الإعجاز البياني من القرآن، إذ كل لفظ فيه مقدر في موضعه لا يمكن أن يسد لفظ آخر مسده.
وأما الأثر المروي عن ابن مسعود فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به، يقول القرطبي: ولاحجة في هذا للجهال من أهل الزيغ أنه يجوز إبدال حرف من القرآن بغيره، لأن ذلك إنما كان من عبد الله t تقريباً للمتعلم وتوطئة منه للرجوع إلى الصواب واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله تعالى وحكاية رسول الله r ([8]).
Ø الشبهة الرابعة: تناقض القراءات:
زعم المستشرق جولد زيهر: وجود تناقض بين القراءات في المعنى، واستدل على ذلك بتناقض القراءتين في سورة الروم ] غُلِبت الروم [ بالبناء للمجهول و] سيَغلبون [ بالبناء للمعلوم، والقراءة الثانية (غَلبت الروم) بالبناء للمعلوم (سيُغلبون) بالبناء للمجهول.
الجواب:
أن القراءة المتواترة في هذه الآية هي ]غُلبت الروم[ بالبناء للمجهول، أما القراءة الثانية فهي قراءة شاذة غير متواترة، وبالتالي لا تصلح لمعارضة القراءة الأولى ولا تعد قرآناً أصلاً. ولن يجد جولد زيهر ولا غيره من المغرضين ما يمكن أن يكون مثالاً لتعارض القراءات، وصدق الله تعالى إذ يقول: ] ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً [ [النساء82].
ومن يرجع إلى كتب التفسير وكتب توجيه القراءات فسيرى ما في تلك القراءات من إعجاز.
Ø الشبهة الخامسة: إقرار بعض الصحابة بوجود اللحن في كتابة المصحف:
يروى أن عثمان t قال: (إن في القرآن لحناً ستقيمه العرب بألسنتها) ، وقال ابن عباس في قوله تعالى ]حتى تستأنسوا وتسلموا [ [النور 27] إن الكاتب أخطأ والصواب حتى تستأذنوا، وعن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ]والمقيمين الصلاة والمؤتون[ ويقول هو من لحن الكتاب، وأن عائشة قالت لعروة ابن الزبير عن قوله تعالى ] إن هذن لسحرن [[طه 63] وعن قوله تعالى ]والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة [ [ النساء 162 ] وعن قوله تعالى ] إن الذين أمنوا والذين هادوا والصبئون [ [ المائدة 69]. فقالت يا بن أخي هذا من عمل الكتاب قد أخطئوا في الكتاب.
روي عن أبي خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة فقال جئت أسألك عن آية في كتاب الله كيف كان رسول الله r يقرؤها قالت أية آية؟ قال ]الذين يؤتون ما آتوا[ أو الذين يأتون ما أتوا. قالت أيهما أحب إليك؟ قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا. قالت أيهما؟ قلت الذين يأتون ما أتوا.
فقالت أشهد أن رسول الله r كذلك كان يقرؤها وكذلك أنزلت ولكن الهجاء (حرف).
والجواب على هذه الشبهة:
1- أن هذه الأخبار كلها لم تصح عمن نسبت إليهم، فهي ضعيفة لا تستحق أن يرد عليها ومعارضة بما ثبت بالتواتر في قراءة القرآن .
2- على فرض صحة الروايات المذكورة: فإن كلمة لحن تحمل على معنى (الوجه) أو اللهجة كما في حديث (اقرؤوا القرآن بلحون العرب) وليس على معنى الخطأ.
3- أن قول عائشة (الهجاء حرف) على فرض صحته هي بإسكان الراء وليس بتشديدها، فهي تريد أن تقول إن الهجاء أي رسم المصحف حرف من الأحرف السبعة.
4- أن هذه الرواية عم أم المؤمنين عائشة معارضة بما ورد من سؤالها عن هذا الموضع من سورة المؤمنون قد ورد في فيه حديث عائشة وسؤالها النبي r عن معنى الآية: (أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال: (لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم)([9]).
Ø الشبهة السادسة: مخالفة بعض القراءات لقواعد العربية:
طعن عدد من علماء اللغة على بعض أوجه القراءات لمخالفتها المشهور من مذهبهم.
الجواب:
إن موافقة اللغة العربية ولو بوجه فصيح أو أفصح شرط من شروط القراءة المقبولة، فكون القراءة تخالف الوجه الأفصح في اللغة لا يعني أنها تخالف اللغة بالكلية، لأن اللغة واسعة فيها المشهور والضعيف والنادر والغريب، والأَولى بعلماء النحو أن يجعلوا القراءات المتواترة حجة على العربية وحاكمة عليها وأساساً لها. لا أن يجعلوا قواعد اللغة أساساً للقراءات.
والعجب كل العجب من بعض علماء النحو أنهم يثبتون لغة ببيت أو عبارة قد لا يعرف قائلها، ولا صدق ناقلها، ولا يثبتونها بالقراءات المتواترة التي نقلها أئمة القراءة.
وعِلم الله سبحانه محيط باللغات كلها، وقد اختار منها لغة العرب لتكون لغة كتابه، فقال عن القرآن ] بلسان عربي مبين [ فهل أحاط النحويون باللغة أكثر من إحاطة الله سبحانه بها حتى يقولوا هذا وجه لا يصح في اللغة مع أنه منقول بالتواتر؟ تعالى الله عن ذلك.
الخلاصة و كلمة ختامية
بعد أن بينا هذه المادة نختلص أن :
· تعريف القراءة مذهب من مذاهب النطق بالقرآن الكريم؛ يذهب إليه إمام من الأئمة مذهبا يخالف غيره مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها. أما فرق القراءة و علم القراءة كالقرأن و علوم القرأن.
· بداية نزول القراءات وأوجه الاختلاف في الكلمات في مكة، أو في المدينة. و كان فيه قولان اللذان شرحنا المذكور قبله.
· نشأة علم القراءات منذ اللحظات الأولى لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلام ربه بواسطة جبريل الأمين عليه السلام.
· سبب اختلاف القراءات عند جولد زيهر ومنشأ تنوعها وتعددها إنما هو خاصية الخط العربي الذي كتبت به المصاحف العثمانية تلك الخاصية هي خلوه من اعجام الحروف ونقطها الذي يدل على ذاتها، و خلوه من شكل الكلمات الذي يدل على إعرابها.
· كان الشبهات التي أثيرت حول القراءات القرآنية عند المستشرقين تنقسم إلى ست شبهات كما ذكرنا قبله.
هذا أخر ما يسر الله عز و جل من كتابة هذه الرسالة و قد حاولنا فيها توخي الإختصار و عدم التطويل إلا ما دعت إليه الضرورة. و فى ختامها نرجو الملاحظات من الإشراف و الأصدقاء لتحسين المقالة القادمة.
شكرا كثيرا...
ثبت المراجع
Al-Hikmah, Departemen Agama RI. 2006. Al-Qur'an dan Terjemahnya. Bandung: Diponegoro
Al-Qadli, Abdul Fattah Abdul Ghani. 2005. Al-Qiraat fi Nadhr al-Mustasyriqin wa al-Mulhidin. Kairo: Dar al-Salam
Al-Qathan, Manna' Khalil. 1973. Mabahis fi Ulum al-Qur'an. Surabaya: al-Hidayah
Al-Sindy, Abdul Qayyum bin Abdul Ghafur. Shafahat fi Ulum al-Qiraat. Makkah al-Mukarromah: al-Maktabah al-Imdadiyah Dar al-Basyr al-Islamiyah
CD-ROM al-Maktabah al-Syamilah
Hawa, Muhammad bin Mahmud. Al-Madkhal ila Ilm al-Qiraat.
Ismail, Syu'ban Muhammad. 2001. al-Madkhal ila Ilm al-Qiraat. Makkah al-Mukarromah: Maktabah Salimy
Munawwir, Ahmad Warson. 1997. Kamus al-Munawwir Arab-Indonesia Terkenal. Surabaya: Pustaka Progressif
loading...
Silahkan Tuliskan Komentar Anda disini. jika anda belum mempunyai Google Account atau Open ID, Anda bisa Menggunakan Name/Url (disarankan menggunakan opsi ini) atau Anonimous. Mohon berkomentar dengan bijak dan jangan spamSilahkan komentar